فصل: الفصل التاسع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل التاسع:

الزمان أنصح المؤدبين، وأفصح المؤذنين، فانتبهوا بإيقاظه، واعتبروا بألفاظه.
فكم هذا التصامم والتعامي ** وكم هذا التغافل والتواني

لو أنا قد فهمنا عن خراب ** الديار مقالها لم يبن بان

ويجني العيش كل أذى ويهوى ** فيا للعيش يعشق وهو جان

فلله الأولى درجوا جميعًا ** وزادهم النجاء من الهوان

وما علقوا من الدنيا بشيء ** سوى بلغ بأطراف البنان

ولما أن رضوا شعث النواصي ** تقي وهبوا التصنع للغواني

لله در العارفين بزمانهم إذ باعوا ما شانهم بإصلاح شأنهم، ما أقل ما تعبوا وما أيسر ما نصبوا، وما زالوا حتى نالوا ما طلبوه شمروا عن سوق الجد في سوق العزائم، ورأوا مطلوبهم دون غيره ضربة لازم، وجادوا مخلصين فربحوا إذ خسر حاتم، وأصبحوا منزل النجاة وأنت في اللهو نايم، متى تسلك طريقهم، يا ذا المآثم؟ متى تندب الذنوب؟ ندب المآتم، يا رجالًا ما بانت رجوليتهم إلا بالعمايم. يا أخوان الأمل قد بقي القليل وتفنى المواسم، أين أنت من القوم؟ ما قاعد كقائم.
للمهيار:
صحب الله راكبين إلى العز ** طريقًا من المخافة وعرا

شربوا الموت في الكريهة حلوًا ** خوف أن يشربوا من الضيم مُرّا

أنف القوم من مزاحمة الخلق في سوق الهدى، وقوي كرب شوقهم فلم يحتملوا حصر الدنيا، فخرجوا إلى فضاء العز في صحراء التقوى، وضربوا مخيم الجد في ساحة الهدى، وتخيروا شواطي أنهار الصدق فشرعوا فيها مشارع البكا، وانفردوا بقلقهم فساعدهم ريم الفلا، وترنمت بلابل بلبالهم في ظلام الدجا، فلو رأيت حزينهم لطلب الرضا، على جمر الغضا، فيا محبوسًا عنهم في سجن الحرص والمنى، إن خرجت يومًا من سجنك لترويح شجنك. من غم البلوى عرج بذاك الوادي.
للشريف الرضي:
عارضا بي ركب الحجاز أسائله ** متى عهده بأيام سلعِ

واستملاّ حديث من سكن الخيف ** ولا تكتباه إلا بدمعي

فاتني أن أرى الديار بطرفي ** فلعلي أعي الديار بسمعي

كلما سُلَّ من فؤادي سهمٌ ** عاد سهم لهم مضيض الوَقْعِ

من معبد أيام جمع على ما ** كان منها وأين أيام جمع

طالب بالعراق ينشد هيهات ** زمانًا أضله بالجزع

يا معوقًا عنهم بكثرة الحوادث، خلص الماء من ضيق الأنابيب، وانظر كيف يسرع؟ إلى متى تألف عش، الصبا سافر مع الرجال. لو عبرت بطن النجف لاستنشقت ريح الحجاز، حدث نفسك بأرض نجد يهن علينا عبور العقبة، ذكرها قرب منى. وقد درجت المدرج.
للمهيار:
من بمنىً وأين جيران منىً ** كانت ثلاثًا لا تكون أربعا

سلبتموني كبدًا صحيحةً ** أمس فردّوها عليّ قِطَعا

عدمت صبري فجزعت بعدكم ** ثم ذهلت فعدمت الجزعا

ارتجعوا إلى ليلة بحاجرٍ ** إن تم في الفايت أن يُرتجعا

وغفلة سرقتها من زمني ** بلعلع سقى الغمام لعلعا

يا صبيان التوبة، هلالكم خفى، فدوموا على المعاملة يصر بدرًا لا بد من ضيف {ولنبلونكم} الطبع يحن إلى المألوف، والولد يطلب ما يشتهي، والزوجة تروم سعة النفقة، والورع يختم كيس التصرف {هنالك ابتُلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالًا شديدًا} أيدي صبيان التوبة في أفواههم بعد طعم الرضاء، بينا ليل زللهم قد عسعس، إذ صبح يوم توبتهم قد تنفس، فكلما احترقت قلوبهم بالخوف، تعرضوا بنسمات الرجاء للعفو.
لا عدا الروح من تهامة أنفا ** سًا إذا استروحت تمنيت نجدا

يا صبيان التوبة، طبيبكم متلطف، تارة بالتشويق، وتارة بالتخويف. هذه الطير إذا انشق بيضها عن الفراخ علم الأب والأم إن حوصلة الفرخ لا تحتمل الغذاء، فينفخان الريح في حلقه لتتسع الحوصلة، ثم يعلمان أن الحوصلة تفتقر إلى دبغ وتقوية، فيأكلان من صاروج الحيطان وهو شيء فيه ملوحة كالسبخ، ثم يزقانه إياه، فإذا اشتدت الحوصلة زقياه الحب، فإذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع فإذا جاع لقط، فإذا رأياه قد استقل باللقط ضرباه بالأجنحة إذا سألهما الزق.
فتأملوا تدبيري لكم في المواعظ، الطفل لا يصبر عن الرضاع ساعة، فإذا صار رجلًا صبر عن الطعام يومين، إنما تقع الكلفة بقدر الطاقة، لما كان الطاير يحتاج أن يزق فرخه، لم يحمل عليه إلا تدبير بيضتين، ولما كانت الدجاجة تحضن ولا تزق كان بيضها أكثر، ولما كانت الضبة لا تحضن ولا تزق صارت تبيض ستين بيضة، وتحفر لهن وتترك التراب عليهن، وبعد أيام تنبشهن فيخرجن، كلما قوي الحامل زيد في الحمل في أول مقام يقول {يحب التوَّابين} وفي أوسطه بعيني ما يتحمل المتحملون، وفي المقام الأعلى كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني. كان أبو سليمان الداراني يبكي حتى ينبت الريع من عينيه، وكان عطاء السلمي يبكي حتى لا يقدر أن يبكي.
يا منفذًا ماء الجفون ** وكنت أنفقه عليه

إن لم تكن عيني فأنت ** أعز من نظرت إليه

كانوا إذا ضيق الخوف عليهم الخناق نفسوه بالرجاء، فكان أبو سليمان يقول: إلهي إن طالبتني بذنوبي طالبتك بكرمك، وإن أسكنتني النار بين أعدائك لأخبرنهم أني كنت أحبك، وكان يحيى بن معاذ يقول: إن قال لي يوم القيامة عبدي ما غرك بي، قلت: إلهي برك بي.
تجاسرت فكاشفتك ** لما غلب الصبر

فإن عنفني الناس ** ففي وجهك لي عذر

لأن البدر محتاج ** إلى وجهك يا بدر

.الفصل العاشر:

أخواني: الدنيا غرارة غدارة، خداعة مكارة، تظن مقيمة وهي سيارة، ومصالحة وقد شنت الغارة.
نح نفسًا عن القبيح وصنها ** وتوق الدنيا ولا تأمننها

لا تثق بالدني فما أبقت الدنيا ** لحى وديعة لم تخنها

إنما جئتها لتستقبل الموت ** وأسكنتها لتخرج عنها

ستخلى الدنيا وما لك إلا ** ما تبلغت أو تزودت منها

وسيبقى الحديث بعدك فانظر ** خير أحدوثة تكون فكنها

كأنك الموت وقد خطف، ثم عاد إلى الباقي وعطف، تنبه لنفسك يا ابن النطف، فقد حاذى الرامي الهدف، إلى كم تسير في سرف؟ ليت هذا العزم وقف، تؤخر الصلاة ثم تسيئها كالبرق إذا خطف، أتجمع سوء كيلة مع حشف؟ الجسد أتى والقلب انصرف، يا من باع الدر واشترى الخزف، أبسط بساط الحزن على رماد الأسف عليك حافظ وصابط، ليس بناس ولا غالط، يكتب الألفاظ السواقط وأنت في ليل الظلام خابط.
يا من شاب إلى كم تغالط؟ ابك ما مضى ويكفي الفارط، ما للعيون قد أخلفت أنواؤها؟ وكثر نظرها إلى الحرام فقل بكاؤها، ما للقلوب المريضة؟ قد عز شفاؤها، سأكتب ضمان الآمال وأين وفاؤها؟ آه لأمراض نفوس قد يئس طبيبها، ولأصوات مواعظ قد خرس مجيبها، هبت والله دبور الذنوب فتركت الأجسام بلا قلوب، أين الفهم والتأمل؟ إن لم يكن جميل فليكن تجمل، أخواني قد دنا الترحل، لا بد وشيكًا من التحول.
رقيبكم يا غافلين لا يغفل، أتذكرون الذنوب بلا تململ، يا من يعد بالتوبة كم تمطل؟ يا ملازمًا للهوى كم تعدل؟ المعاصي سم والقليل منه يقتل.
يا هذا الدنيا وراءك والأخرى أمامك، والطلب لما وراءك هزيمة. إنما يعجب بالدنيا من لا فهم له، كما أن أضغاث الأحلام تسر النائم لعب الخيال يحسبها الطفل حقيقة، فأما العقل فيعلم ما وراء الستر.
رأيت خيال الظل أكبر عبرة ** لمن هو في علم الحقيقة راق

شخوص وأشباح تمر وتنقضي ** جميعًا وتفنى والمحرك باقي

كم أتلفت الدنيا بيد حبها في بيد طلبها، كم ساع إليها سعي الرخ ردته معكوسًا رد الفرازين، الدنيا نهر طالوت، والفضائل تنادي: {فمن شرب منه فليس مني} فإذا قامت الفاقة مقام ابن أم مكتوم أبيحت لها رخصة {إلا من اغترف} فأما أهل الغفلة فارتووا، فلما قامت حرب الهوى، ثبطتهم البطنة، فنادوا بألسنة العجز {لا طاقة لنا} وأقبل مضمن الجد فحاز قصب السبق، كل الشر في الشره، واللذة خناق من عسل، من تبصر تصبر، الحزم مطية النجح، الطمع مركب التلف، التواني أبو الفقر، البطالة أم الخسران، التفريط أخو الندم، الكسل ابن عم الحسرة، ما يحصل برد العيش إلا بحر التعب، ما العز إلا تحت ثوب الكد، على قدر الاجتهاد تعلو الرتب، لما صابر النضو مشقة السير معرضًا عن أعرض المطاعم، زين بالجلال يوم العبد، ولما تكاسلت البخاتي ميلًا إلى كثرة العلف وقع ببختها الذبح، سابق الطير مكرم، والديك الحاذق بالصباح مطلق، إذا صب في القنديل ماء ثم صب عليه زيت صعد الزيت فوق الماء، فيقول الماء: أنا ربيت شجرتك فأين الأدب؟ لم ترتفع علي؟ فيقول الزيت: أنت في رضراض الأنهار تجري على طريق السلامة، وأنا صبرت على العصر وطحن الرحا وبالصبر يرتفع القدر، فيقول الماء: ألا أني أنا الأصل، فيقول الزيت: استر عيبك فإنك لو قارنت المصباح انطفأ.
يا بعيدًا عن المجاهدة قد اقتسم الرعيل الأول النفل، أما ترى أسلاب الهوى كيف يبيعها أربابها في سوق الافتخار بالنض {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب}.
يا من قد انحرف عن جادتهم، كم أحركك بسوط الشوق في شوط السوق، سهم عزمك بلا ريش، إنما يقع الرمي بين يديك. يا مخنث العزيمة أقل ما أبقى في الرقعة البيذق، فلما نهض تفرزن، رأى بعض الحكماء برذونا سيتقي عليه، فقال لو هملج هذا لركب، متى همت أقدام العز بالسلوك اندفع من بين يديها ما يسد القواطع، ومتى هاب الغايص موج البحر لم يطمح له في نيل الدر، يا من عقد عزمه بأنشوطة، والهوى يمدها للحل، إن عزفت من عزيمتك الثبوت في صف المجاهدة، وإلا فاحذر هتكة الهزيمة.
كان ذو البجادين يتيمًا، فلما عمه الفقر كفله عمه، فنازعته النفس إلى الإسلام، فهم بالنهوض، فإذا بقية المرض مانعة، فقعد على انتظار العم، فانتهى المرض، فصارت الهمة عزيمة، فنفذ الصبر فناداه صدق الوجد.
للمهيار:
إلى كم حبسها تشكو المضيقا ** إثرها ربما وجدت طريقا

أجلْها تطلب القصوى ودعْها ** سُدىً يرمي الغروبُ بها الشروقا

أتعقلها وتقنع بالهوينا ** تكون إذن بذلّتها خليقا

ولم يشفق على حسبٍ غلام ** يكون على ركائبه شفيقا

فقال: يا عم كيف انتظر سلامتك بإسلامك وما أرى زمن زمنك ينشط، فقال: والله لئن أسلمت لأنتزعن كل ما أعطيتك، فصاح لسان الشوق نظرة من محمد أحب إلي من الدنيا وما فيها، هذا مذهب المحبين، إجماعًا من غير خلاف:
ولو قيل للمجنون ليلى ووصلها ** تريد أم الدنيا وما في خباياها

لقال تراب من غبار نعالها ** ألذ إلى نفسي وأشفى لبلواها

فلما تجرد لطلب الثواب، جرده العم من الثياب، فناولته الأم بجادًا فقطعه لسفر الوصل، فائتزر وارتدى، وغدا في هيئة {ربَّ أشعثَ أغبر}:
سنة الأحباب واحدة ** فإذا أحببت فاستنن

فنادى صائح الجهاد في جيش العسرة، فتبع ساقة الأحباب على ساق، والمحب لا يرى طول الطريق إنما يتلمح المقصد:
ألا أبلغ الله الحمى من يريده ** وبلغ أكتاف الحمى من يريدها

فحمل جلدة فوق جلدة، إلى أن نزل منزل التلف، فنزل الرسول في حفرته يمهد له اللحد لمأمور (إذا رأيت لي طالبًا، فكن له خادمًا) وجعل يقول: «اللهم، إني أمسيت راضيًا عنه فارض عنه»، فصاح ابن مسعود: ليتني كنت صاحب الحفرة:
كذاك الفخر يا همم الرجال ** تعالَيْ فانظري كيف التعالي